الشجاعة الأدبية ..!
المحرر ..
في بعض رواياته، يتحدث الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ عن "الفتوات" وهم أشخاص متجبرون كانوا يفرضون سيطرتهم على الآخرين بالقوة .. وكان الكل يخضعون لهم، خوفاً من بطشهم! وهؤلاء الفتوات – في روايات الأديب الكبير – هم نماذج لكل الذين يمارسون العنف والقسوة والبلطجة في كل زمان ومكان..
فهل نقول أن سلوكهم العنيف هذا يُعد شجاعة؟.. من الممكن أن تكون الشجاعة دافعاً للسلوك العنيف. ولكن من المؤكد انه توجد معها دوافع أخرى، قد تكون عقداً نفسية، أو ميولاً عدوانية! ومن هنا تبدو السلوكيات ذات الطابع الإجرامي التي يرفضها المجتمع، ويعاقب عليها القانون..
أما الشجاعة الحقة فهي التي تسمي بـ "الشجاعة الأدبية" وهذه تكون باعثة علي المبادئ والمثل العليا، وكل ما هو حق وعدل وما هو بناء.. ونلاحظ أبرز ملامحها فيما يلي :-
أولاً : إحقاق الحق ..
تعمل هذه الشجاعة علي إظهار الحق ومساندته، برغم ما يواجه الشجاع من تحديات وما يتكبده من تضحيات. ويتمثل ذلك في :-
* الشجاع لا يكذب، بل يقول الحق والصدق دائماً. مع أن الصدق ليس أمراً سهلاً، في كل الأحوال، و كثيراً ما يكون النطق به، أمراً بالغ الصعوبة والحرج. ويدخل في هذا النطاق، "الشهادة" التي قد تكون أمام المحكمة، أو أي جهة حكومية، أو جلسة عرفية. فالشجاع يشهد بالحق حتى مع صعوبة ذلك، كأن تكون شهادته ضد أحد أصحاب النفوذ أو ضد أحد الأقارب أو الأصدقاء.. فهو يقول الحق وليحدث ما يحدث!
* الشجاع يعترف بأخطائه إذا أخطأ : .. الخطأ البشري أمر وارد، لأننا بشر ناقصون.. ولكن ليس كلنا يمكننا الاعتراف بأخطائنا، بل الشجاع فقط هو الذي لا يخشى أن يصرح بأنه أخطأ، ولا يجد في ذلك حرجاً! يقول الرسول يعقوب : "اعترفوا بعضكم لبعض بالزلات" (يع16:5).
* ويتصدى للأخطاء : الشجاع يتصدي للأخطاء والانحرافات. ولكن لا يكون التصدي بالقوة الغاشمة، بل بكشف الأخطاء ومواجهة أصحابها بدون خوف، ويدخل في هذا المضمار أولئك الذين يتحدثون ويكتبون ضد ما يرونه من ظلم وفساد في المجتمع الذي يعيشون فيه، وهم غير هيابين لأحد!
وفى الكتاب المقدس نجد رجالاً عظاماً، تميزوا بهذه الشجاعة المباركة.. ونذكر منهم على سبيل المثال :-
* إيليا النبي : في التصدي لأخاب ملك إسرائيل، وتوبيخه والتنبؤ عليه بالعقاب الإلهي انظر (1مل18:18 ، 20:21-26).
* يوحنا المعمدان : في توبيخه للملك هيرودس بسبب زواجه الباطل من هيروديا امرأة فيلبس أخيه الذى كان على قيد الحياة! وكانت صرخة المعمدان في وجه الملك : «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ» (مر18:6).
* بطرس الرسول : في شهادته للمسيح، وكيف واجه القادة الدينيين اليهود، ووبخهم ولم يبال بكونهم أصحاب سلطة ونفوذ.. (انظر أع13:3-26 ، 10:4-12).
ثانياً : مواجهة الشدائد :
كلنا كبشر معرضون لأن نجتاز في شدائد من أنواع مختلفة. وهذه تظهر حقيقة كل واحد، إن كان شجاعاً في مواجهتها أم لا .. والشجاعة الحقة هي التي تدفع للصمود والتحدي .. فكم من صعاب هائلة تعترض الإنسان، ولا يمكن الصمود أمامها إلا بقدر كبير من هذه الشجاعة، فهي التي تعطي قوة إرادة دافعة، تتحدي كل الصعاب .. ويتمثل ذلك في كل من ساروا علي درب النجاح المحفوف بالأشواك، والملئ بالعقبات، وهم مصممون علي النجاح بدون ضعف أو تخاذل .. وبكل تأكيد سوف ينجحون .. ويذكر لنا الكتاب المقدس العديد من الأشخاص الذين كانت لهم مواقف صلبة وتحدوا كل الصعاب والعقبات، ونذكر منهم علي سبيل المثال :-
* يوسف البار : الذي واجه شدائد هائلة، ولكنه ثبت ونجح وأثمر، كما جاء عنه في نبوة يعقوب أبيه، إذ قال : "يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ عَلَى عَيْنٍ. أَغْصَانٌ قَدِ ارْتَفَعَتْ فَوْقَ حَائِطٍ." (تك22:49). لقد أثمر يوسف .. ارتفعت أغصانه فوق حائط المعاناة الصعبة. التي يصفها يعقوب بالقول : "فَمَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ. 24 وَلكِنْ ثَبَتَتْ بِمَتَانَةٍ قَوْسُهُ، وَتَشَدَّدَتْ سَوَاعِدُ يَدَيْهِ. مِنْ يَدَيْ عَزِيزِ يَعْقُوبَ" (تك23:49-24).
* نحميا القائد : هذا الرجل العظيم الذي تثقل بمهمة صعبة وهي بناء سور مدينة أورشليم المنهدم، وقد قال قولته الشهيرة : "هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارًا" (نح17:2). لقد تحدي نحميا كل الصعاب، والمقاومة التي واجهته، وكان يشجع رجاله وهم يقومون بالعمل، حتى أنهم كانوا يعملون في البناء وهم مسلحون. لأن أعداءهم كانوا لهم بالمرصاد، وقد حاولوا مراراً إيقاف العمل، ولكن نحميا تحدي كل أعمال المقاومة، من الأعداء. وكان شعاره "إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي" (نح20:2) وقد تم لهذا الرجل (نحميا) النجاح المنشود..
* بولس الرسول : هذا الرجل الذي واجه صعاباً كثيرة، تفوق طاقة البشر. ولكن وسط هذه الصعاب التى تمثلت فى الصراع مع قوى الشر التى كانت تحاول إعاقة بولس عن نشاطه في خدمة سيده، وخلاص النفوس التي مات لأجلها، كان شعار الرسول هو : "وَلكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ" (أع24:20)..
لقد قضي أغلب سني خدمته في السجون والقيود. ولكن هذه لم تعطل كرازته، لأنه كان يري انه، بالمسيح، أقوي من أية معوقات، حيث قال : "أستطيع كل شئ فى المسيح الذى يقوينى" وقد وصلت الشدائد التي واجهها بولس إلي حد أن قال : "إِنْ كُنْتُ كَإِنْسَانٍ قَدْ حَارَبْتُ وُحُوشًا فِي أَفَسُسَ،!" (1كو32:15) ولكن مع هذه الشدائد والضيقات، لم يستكن الرسول ولم يقلل من نشاطه، ولم يكف عن جهاده حتى ختم حياته بالاستشهاد عام 68م .
هذه أبرز ملامح الشجاعة الأدبية.. وكما رأينا فهي قوة تتجه دائماً إلي ما هو حق، وما هو جليل، وما هو عادل.. ليتنا نمتلئ من هذه القوة البناءة .. قوة الشجاعة الأدبية..