د. القس / صفاء داود فهمى..
أهم ترجمة عربية ظهرت في القرن
التاسع عشر، وكان لها أبعد الأثر في الحياة المسيحية في الشرق الأوسط، تلك هي
الترجمة التي قامت بها الإرسالية الأمريكية ببيروت في تعاون وتنسيق مع جمعية
الكتاب المقدس بأمريكا.. وقصة هذه الترجمة، قصة طويلة، تستحق أن تروى بكافة
تفصيلاتها. ولكن لضيق المقام نوجز أهم وقائعها فيما يلي :
بدأت قصة هذه
الترجمة، وهي التي تُعرف باسم : "البستاني،
سميث، فان دايك". عندما قرر مجلس الإرسالية الإنجيلية في سوريا عام 1844م تشكيل لجنة
لدراسة الحاجة إلى ترجمة عربية حديثة للكتاب المقدس.. ورفعت اللجنة تقريرها إلى
مجلس الإرسالية، الذي قرر القيام بترجمة عربية حديثة للكتاب المقدس، يكون أساسها
النصوص العبرية والآرامية للعهد القديم، واليونانية للعهد الجديد. على أن تكون
الترجمة في صياغة عربية حديثة، وبأسلوب يتمشى مع العصر..
وكلف مجلس
الإرسالية "إيلي سميث"
ليقوم بهذا العمل، فاختار معاونيه وهما : المعلم بطرس البستاني، والشيخ ناصيف
اليازجي. وكان كلاهما من المع الأسماء في نهضة الأدب العربي في العصر الحديث، بل
كان لهما دور الريادة في هذا المضمار، قبل أن تظهر أية أسماء أخرى فـــي مخــــتلف
بــــــــــلاد الشرق الأوسط.. فكان المعلم "بطرس البستانى" يقوم بإعداد المسودة الأولى للترجمة، ويقوم
"سميث" بضبطها، بالمقارنة مع النص في
اللغة الأصلية والتأكد من سلامة عباراتها لاهوتياً، وكان الشيخ "ناصيف اليازجي" ينقح أسلوبها. وعندما
مات "سميث" عام 1854م، كان سفر التكوين
والجزء الأكبر من سفر الخروج، وكذلك الجزء الأكبر من إنجيل متى قد تمت طباعتهم.
وكانت مُسّودات بقية العهد الجديد وجزء كبير من العهد القديم مُعدة للترجمة.. ثم
أسندت الإرسالية العمل عام 1857م إلى طبيب موهوب هو "كرنيليوس فان دايك" الذي
كان عبقرياً في مجالات علمية كثيرة. فسهر علي إنجاز هذه المهمة مع نفس فريق العمل،
الذي عمل معه "سميث". مع إضافة
رجل أزهري له باع واسع في اللغة العربية هو : "الشيخ يوسف ابن عقل الأمير الحسيني".
وكانت وجهة نظر "فان ديك"
إنه يرغب في الاستفادة من شخص يجيد اللغة العربية، دون تأثر بمفردات مسيحية مألوفة،
قد لا تكون مفهومة للجميع.
وقد تم الانتهاء من طباعة العهد الجديد عام 1860م، وتمت ترجمة العهد القديم
كاملاً عام 1864م، إلا أن الانتهاء من طباعة وتجليد الكتاب المقدس كاملاً كان في
عام 1865م. وكانت هذه الطبعة تشمل الشواهد الكتابية مع تشكيل محدود كما تقضي
الضرورة. إلا أن "فان دايك"
ظل يراجع الترجمة، وداوم علي ذلك حتى وفاته 1895م. وحيث أنه كان عضواً باللجنة التي
رأت الحاجة المناسبة إلى هذه الترجمة عام 1844م، فأنه بذلك يكون قد قدم خمسين
عاماً من عمره في مجال هذه الترجمة.
ومن بعد
"فان دايك" جاء "فرانكلين هوسكنز" الذي
أهتم بإصدار الطبعة الرابعة من الكتاب المقدس شاملاً الشواهد الكتابية، وحواشي
فيها قراءات النص اليوناني للكلمات المختلفة في العهد الجديد، وكذلك ترجمة أخرى
لبعض الكلمات التي يمكن أن يكون نصها له أكثر من معنى. وصدرت نسخة منقحة عام
1916م. ولا شك أن "فان دايك"
نفسه كان يسعده أن يرى مزيداً من التنقيح علي مر الأعوام كما فعل هو نفسه، مرة تلو
الأخرى. ومنذ صدور هذه الترجمة، وحتى الآن، وهي تلاقي رواجاً كبيراً لم تبلغه أي
ترجمة عربية أخرى.