د / القس صفاء داود فهمى ..
العهد القديم مثل العهد الجديد هو كلمة الله، وأعماله الخلاقة. فهو يضم كلمة الله وعمله إلى جانب الأحداث التى جرت فى عصور الإعلان المختلفة، إذ يضم بعض أعمال الأنبياء وكيفية تلقيهم للإعلان وتوصيله للبشر، وكيفية تقبل البشر له، والظروف التى كانت ملازمة للإعلان، وتأثير هذا الإعلان فيها، كما انه فى كتابة الإعلان استخدمت كل أنواع وألوان الأساليب الأدبية من شعر ونثر ودراما وقصة وملحمة وأمثال وحِكِم وتاريخ وأدب.. إلخ. فما هو دور الكُتّاب فى هذا الإعلان؟
ونجيب على هذا السؤال بمثال حى، وهو حقيقة تجسد السيد المسيح، فهو كلمة الله الأزلى الحى الخالق، عقل الله الناطق، الذى، لكى يظهر للبشرية "اتخذ جسداً" أو "صار جسداً" (يو14:1). "ظهر فى الجسد" (1تى16:3) "فاذ قد تشارك الأولاد فى اللحم والدم اشترك هو أيضاكذلك فيهما" (عب14:2) "مجرب فى كل شئ مثلنا بلا خطية" (عب15:4) ومن ثم تكلم بأقوال الله، وأعلن عن ذاته، وعمل كل أعمال الآب (يو15:16). فهو كامل فى لاهوته، وكان يتكلم كإنسان ويعمل أعمال الإنسان، عدا الخطية. وهو أيضاً كامل فى ناسوته. انه الله والإنسان فى آن واحد! الله الذى قى قدرته الفائقة، التى تعجز عقولنا المحدودة عن إدراك صنيعه، قد اتحد بالبشرية فى ذاته!!
والكتاب أيضاً هو كلمة الله الحية الفعالة، التى ظهرت فى شكل كلمات بشرية، لأن الله استخدم البشر فى كتابتها، فصيغت بكلمات وعبارات يفهمها البشر، صيغت بأسلوبهم وبأدبهم، وكُتبت بأيديهم فعبّرت عنهم، وعن قوتهم وضعفهم.. الكتاب إذاً هو كلمة الله، ونَفَس الله الذى تكلم به بروحه، على أفواه قديسيه، وكتبه بأقلامهم وأسلوبهم. هو إعلان الله عن ذاته وارادته وغايته لكل البشرية. وهو أيضاً كتاب الإنسان لأنه يحكى تاريخه، ويعبر عنه فى كل مواقف حياته. انه كتاب الله فى علاقته مع الإنسان، وكتاب الإنسان الذى حَمَلَه روح الله على كتابته، أو الذى استخدمه الله فى تدوينه. انه نَفَس الله الذى تنفسه، فصارت الكلمات التى يستخدمها البشر، كلمات حية، هى كلمة الله الحية والفعالة، التى تكلم بها وكتبها البشر، إذ نطقها الروح القدس بأفواههم، وكتبها بأقلامهم!
ولكننا لا نقصد هنا، ولا يشير الكتاب ذاته، إلى وحى إملائى أو ميكانيكى، آلى، جامد، بمعنى ان الروح القدس أملى على ُكتّاب الوحى، أو حفّظهم، أو لقنهم كل كلمة وكل حرف، وكأنهم مجرد شريط تسجيل، لا دخل لهم فيما يُسجل عليه. نعم هناك نصوص كُتبت إملائياً، أملاها الله، وكان على البشر أن يحفظوها كما هى، مثل الوصايا العشر، التى كتبها الله بنفسه على لوحى حجر وأعطاهما لموسى، ولكن الله فى الكتاب المقدس، مثل المؤلف الموسيقى، والأنبياء، كُتّاب الوحى، مثل عازفى الكمان، أو الفرقة الموسيقية، التى تعزف ما ألفه المؤلف الأصلى، بآلاتهم وأسلوبهم، لقد كتب الكتّاب بأسلوبهم واحتفظوا بتفردهم، ولم تلغ شخصياتهم ودورهم كشهود وأعضاء عاملين فى توصيل الإعلان، فكتبوا بأسلوبهم واستخدموا قدراتهم. بل واختلف أسلوب كتابة كل واحد منهم عن الآخر. وعلى سبيل المثال يختلف أسلوب كتابة "موسى" النبى الذى تعلم بكل حكمة المصريين، وأسلوب "دانيال" الذى تربى فى مدرسة الحكمة فى بابل، بل وصار الوزير الأول (أو رئيس الوزراء) عن أسلوب "عاموس" راعى الغنم وجانى الجميز..
وعلى ذلك نُسب الكتاب كله إلى الله، ونُسب للبشر أيضاً، فيقال : "موسى كتب" (مز19:2، لو28:20). "قال موسى" (مت24:22، مر10:7، أع22:3). و"إشعياء.. يقول" (رو20:10). "إشعياء قال" (يو39:12). "صرخ إشعياء" (رو27:9). "تنبأ إشعياء" (رو29:9). "يقول داود" (لو42:20، أع25:2)، "لأن داود نفسه قال" (مر36:12).. ثم يقال أيضاً : "قال الله"، "كلمة الله" فكلام الكتاب هو كلام الله الذى تفوه به الأنبياء. "لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم" (مت20:10) "سبق الروح القدس فقال بفم داود" (أع16:1) أو موسى أو صموئيل أو إشعياء.. إلخ.