الدكتور القس / صفاء داؤد
كانت مدينة " بابل " سيدة المدائن . يقسمها نهر
الفرات . وتعتبر حلقة الوصل والمركز التجاري الهام بين الشرق والغرب . بلغت
مساحتها 196 ميلاً مربعاً . ومحيطها 56 ميلاً , ويحيط بها سوران , يبلغ ارتفاع
السور الخارجي 100متراً وعرضه 24 متراً ، ويكفي لسير ست عربات مركبات حديدية متجاورة ,
وعمق أساساته 12 متراً . وعلى السور 250 برجاً للمراقبة , وبه 100 بوابة من خشب
الأرز المغشى بالنحاس اللامع . وسورها الداخلي مبني بالقوالب الملونة , التي تمثل
مناظر لصيد النمور والأسود . واشتهرت بابل بحدائقها المعلقة وهي إحدى عجائب الدنيا
السبع ..! وتقدمت بابل في العلوم، واخترعت الألف باء
للكتابة , وتقدمت في علوم الحساب والهندسة . ومن عظمتها خشي " هيرودوت "
ان يصفها لئلا يكذبه الناس .. ورغم هذه العظمة , فقد تنبأ عنها كل من " إشعياء
" و" إرميا " بالخراب الأبدي في وصف تفصيلي للغاية . ويمكن تتبع
النبوات كالآتي : لم ينس الرب ما فعله " نبوخذ نصر " إذ خرّب مدينة أورشليم
, وسلب الآنية المقدسة , وخرّب الهيكل , بالإضافة إلى شرور بابل الأخرى . ولذلك
جاءت النبوات بمعاقبتها :" واكافئ بابل وكل ارض الكلدانيين على كل شرهم الذي
فعلوه في صهيون , أمام عيونكم , يقول الرب " ( إر 51 : 24 ) . وتوعدها قائلاً: " فلو صعدت
بابل إلى السماوات ,
ولو حصنت علياء عزها , فمن عندى يأتي
عليها الناهبون , يقول الرب " ( 51 : 53 ) وحدد إشعياء بأن الخراب سيحل ببابل
على يد مملكة فارس ومادي , وتنبأ قائلاً : " قد اعلنت لى رؤيا قاسية : ...
اصعدي ياعيلام حاصري يا مادي " (إش 21 :2 ) . وحدد إشعياء اسم الملك ( كورش )
الذى سيكتسح " بابل " وسيصرح ببناء أورشليم وتجديد الهيكل : "
القائل عن كورش : راعىيّ ، فكل مسرته يتمم . ويقول عن أورشليم : ستُبنى ، وللهيكل
: ستؤسس " ( إش 44 : 28 ) ويصف هيرودوت حصار المدينة فيقول
: " وهكذا زحف الماديون والفارسيون على بابل بزعامة كورش . وعندما طاف كورش
وكبار قواده حول المدينة ، ورأوا استحالة خضوع هذهالأسوار لكل آلات الحرب المعروفة آنذاك ، فضلاً عن الحاجز المائي المنيع ، لم
يغير رأيه ، بل أمر بحصار دقيق لها .. وأحاطوها لمدة سنتين .. والأمر العجيب أن
رجال " بابل " خشوا الخروج من المدينة لفك الحصار ، تماماً كما تنبأ
إرميا النبي : " كف جبابرة بابل عن الحرب ، وجلسوا فى الحصون . نضبت شجاعتهم
. صاروا نساءاً " (إر 51 : 30 ) . ويذكر " زينوفون " المؤرخ أن
كورش دعا ملك بابل للمغادرة الفردية فأبى .. كيف اقتحم " كورش " بابل ؟
. لقد هرب من مدينة بابل رجلان وأنضما إلى جيش فارس ، فأستعان بهما كورش ، ووضع
خطة لإقتحام المدينة . فطلب كورش من جنوده حفر خندق ضخم جداً . وفي الليلة السابقة
من تشرين الأول 539 ق . م ، تم تحويل مجرى نهر الفرات ، وتحققت نبوة إرميا :
" هكذا قال الرب ... انشف بحرها وأجفف ينبوعها " ( إر 51 : 36 ) .
وأقتحمت قوات فارس المدينة عبر مجرى النهر الأصلي. كيف
تم الهجوم على المدينة الحصينة ؟ . فى ليلة كان فيها البابليون يقيمون حفلاً
لإلهتهم , يرقصون ويسكرون ويضحكون على اعدائهم الواقفين عاجزين خارج الأسوار
الحصينة , دون ان ينتبهوا الى " كورش " الذي حـــــــــــّول مجرى النهر , ويسرع بجيشه الجرار الى
داخل المدينة . وفوجئ أهل بابل بجنود كورش داخل المدينة, وداخل البهو الملكي ,
بحسب ماصوّر إرميا النبي من قبل : " قد حلف رب الجنود بنفسه : إنى لأملانك
أناساً كالغوغاء , فيرفعون عليك جلبة " ( إر 51 :14 ) ويقول هيرودوت : "
بعد ان حفر كورش خندقاً عظيماً , وأنجز هذا العمل الهندسي العظيم , فى ليلة كان
فيها البابليون غارقين فى سكرهم وبطرهم وأفراحهم , ظناً منهم ان مدينتهم أمنع من عُقاب
الجو ! " ( العُقاب طائر من كواسر الطيور , قوي المغالب , حاد البصر ) تنبأ
إرميا قائلاً : " يركض عداء للقاء عداء , ومخبر للقاء مخبر , ليخبر ملك بابل
بأن مدينته قد أحذت عن أقصى " ( إر 51 : 31 ) .. وفعلاً تمت هذه النبوة , إذ
اقتحم " كورش " مجرى النهر من طرفيه فى وقت واحد , فركض المخبرون من
الجانبين ليخبروا الملك . وكل عداء يخبر عداء آخر , لتصل الرسالة بأسرع ما يمكن إلى
الملك . وأمام قصر الملك التقى المخبران , فأحدهما جاء من طرف , والآخر جاء من
الطرف الآخر لمجرى النهر .
لو أغلق
البابليون أبواب النهر النحاسية قبل هجوم كورش , لفشل الهجوم . ولكنها تركت مفتوحة لأنه لم يتوقع أهل بابل أن
كورش سيحول مجرى النهر . وبهذا تحققت نبوة إشعياء النبي عندما قال : " لأفتح
أمامه ( امام كورش ) المصراعين ( أبواب
القصر ) والأبواب لا تغلق ( أبواب النهر النحاسية ) " (إش 45 :1 ) والأمر
المدهش أن إرميا النبي قد أكد نبوة إشعياء هذه , إذ كتب كل الشرور الآتية على بابل
, وأرسل سرايا ابن نيريا إلى بابل , وأمره أن يقرأ كل هذه الشرور , وأوصاه قائلاً
: " يكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر , انك تربط به حجراً وتطرحه إلى وسط
الفرات وتقول : هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها " ( إر
51 : 63 , 64) والمدينة
لم تقم لها قائمة بعد . وكم من المدن خربت , وأعيد تجديدها مثل أورشليم وروما وغيرهما
, أما بابل فلم تُجدد , رغم أن كورش سكن بها , وأراد أن يحييها ولكن خلفاءه
اختاروا غيرها . ورغم أن الإسكندر كان يتمنى اعادتها إلى مجدها , ولكنه وجد
التكلفة باهظة . كما تصارع خلفاء الإسكندر , وجرت المعارك بينهم على أرض بابل . فنهبتها
الجيوش المتحاربة وأكملت خرابها ! وتحققت النبوات بأن " بابل " ستظل
خراباً الى الأبد , لا يسكنها إلا بنات آوي ,اى
الذئاب , ولا يقيم فيها راعي أو إعرابي .. لماذا ؟ لأنه نتج عن ذلك تحويل النهر إلى
برك ومستنقعات , ولم تعد أرضها صالحة للزراعة , فلا تنمو فيها حتى الاعشاب التي
تجذب الرعاة . وحدث ما صوره إشعياء تماماً : " وتصير بابل بهاء الممالك وزينة
فخر الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة . ولا تعُمر إلى الأبد , ولاتسكن الى دور
فدور , ولايخيّم هناك إعرابي , ولايربض هناك رعاة , بل تربض هناك وحوش القفر ...
وتصيح بنات آوي في قصورهم " ( إش 13 : 19 – 22 ) فى سنة 1956 كتب " أندرو بارو " فى
كتابه " بابل والعهد القديم " يقول : " فبسبب اقتراب المدينة من
بغداد , يتدفق إليها السياح كل يوم , وبصورة عامة يخيب ظنهم كثيراً , وبصوت واحد
يقولون : انه لا يوجد شئ لرؤيته " تؤكد النبوات بأن "
بابل " لن تعمر إلى الأبد . وها قد مرّت عشرات القرون , وتقف النبوات ضد
تعمير " بابل " كالجبل الشامخ , تعظ غير المؤمنين وتناديهم أن يصدقوا
الكتاب المقدس وكل حرف فيه , وأن يأتوا إلى رب الكتاب , حتى ينالوا النهاية
الصالحة ..