د/ مارسيل اسحق فرج ..
ما أروع أشكالها، وأرق الوانها..! أراها تحلق فى سمائها.. سابحة فى أجمل فضاء، وكأن الكون كله قد خُلق لأجلها!! لا تقع عيونها سوى على اللون السماوى الصافى، والأشجار الخضراء، والورود الزاهية بشتى الألوان، التى تبعث الهناء..! وفى أضواء الشمس الذهبية الدافئة. وتعود بين ثنايا هذا الكون فرحة، متطلعة..! انها طيور السماء.. تتمتع باهتمام الخالق القدير، وتستمتع بالحياة التى منحها إياها ربها العظيم، فلا تجدها تقلق، أو تهتم.. مع إنها ضعيفة، ولا تملك سوى أعشاشاً صغيرة، يمكنك أن توقعها بكل سهولة..!
ورغم ذلك لا تراها تقلق على أعشاشها من الريح، أو على نفسها، أو حتى صغارها. ولا تملك سوى أجنحة صغيرة، تطير بها.. ليس لديها ما تدافع به عن نفسها، لأنها كائنات ضعيفة، وبالتالى فهى أكثر تعرضاً لخطر الطيور الأقوى منها، الكاسرة..! والمدهش انها لا تخشى الطيران، وكأن السماء لها وحدها.. من أين لها هذا السلام العجيب؟! الاجابة نجدها فى إنجيل (متى26:6) "اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟".
وهنا دعونا نتأمل ثلاث كلمات وهى : "أبوكم السماوى يقوتها" الله هو أبونا ونحن أبناؤه. ولأنه الخالق، فهو يهتم بكل خليقته، يهتم بالطيور، ويرتب لها قوتها مما يجعلها لا تهتم بالغد، ولا تجمع إلى مخازن.. لقد أهتم الله بالطيور، فكم وكم يكون اهتمامه بأبنائه الذين أحبهم، وبذل ابنه الوحيد لأجلهم.. لقد أخجلتنا الطيور الضعيفة التى ليس لها عقلاً يفكر مثلنا.. لقد أخجلتنا الطيور التى أخضعها الرب لنا، وأعطانا سلطاناً عليها.. فهل أعطيتنا يارب عقلاً لنفكر به فى أنفسنا، فندفن رؤوسنا داخل أوانينا البشرية الذاتية، فنرتبك ونقلق ونهتم للغد؟! أم أعطيتنا عقلاً لنفكر به فى مجدك، ونسعى لأجل معرفتك، وإدراك حبك. فينطلق القلب معه ليسبحك؟!
علينا الإتضاع أمام النور الإلهى، ونعترف بأننا كثيراً ما انشغلنا بأمورنا الخاصة، على حساب أمور الرب العظيمة.. كثيراً ما جرينا وراء أهداف باطلة، وحصدنا منها تعباً وهواناً.. كثيراً ما استخدمنا أفكارنا فى الترتيب لأنفسنا، مدفوعين بثورة القلق من الداخل، فنرتب ونبذل جهدنا لأنفسنا، وتعلو أولوياتنا على أولويات الله.. والطيور تشاهدنا من السماء وتتعجب من أفعالنا..!! فهى تطير فى السماء لتغرد وتفرح بالكون وخالقه. أما نحن فنقلق، بل نحزن ونغتم..! هى تسبح الله القدير، وتشدو وتحكى عن قدرته فى الخلق والإبداع، أما نحن فنلتف حول ذواتنا.
والآن .. بعدما أعطينا كل الإهتمام بالغد، ونسينا مكان الرب فى حياتنا، ماذا جنينا؟ اسمع قول الرب فى (مت27:6) "وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟" (أى يطيل عمره ساعة واحدة) بحسب كتاب الحياة. من منا مهما كانت قدرته وقوته وذكاءه، يقدر أن يزيد ذراعاً واحدة؟!
يا أخوتى، علينا أن ندرك أن الرب هو وحده كلى القدرة، ولا نقدر أن نفعل شيئاً بدونه..! وإذا حاولنا بدون الرب حتماً سنفشل، ولن نحصد شيئاً..
تذكر هذه الكلمات دائماً : "تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ" (أم5:3) ليس الغاء لفهمك كما يظن البعض، ولكنه اخضاع فهمك وفكرك، بكل قلبك، للرب، غير معتمد على استنتاجاتك البشرية، لأنها قد تخيب.. الله عظيم وأفكاره من نحونا غير محدودة.. انها ليست كأفكارنا المحدودة..
علينا اذن بتسليم أمور الغد له، فهو خير من يدبرها لنا وكل طرقه لخيرنا. وقتها سنحظى بالسلام العجيب.. وماذا لو سلمنا له؟ مكتوب "سلمنا فصرنا نُحمل" سيحملنا وينتشلنا من دائرة الذات والقلق.. ويجب أن يكون التسليم للرب كاملاً، فاذا سلمت للرب كل أمورك، فذلك سيطرد كل قلق من قلبك، ليحل بروحه ويغمرك بسلامه الذى يفوق كل عقل، وأيضاً بالأفراح وكل ثمار وبركات الروح الغنية..
انظروا إلى طيور السماء، إنها تغرد فى الفضاء فرحة. ليس طلباً فى قوت الغد. لأن أبانا السماوى يقوتها.. فليس عندها الاهتمام بالغد، بل تسعى للإنطلاق والإستمتاع بحياتها فى الطيران والحرية.. ليتنا ندرك أن حياة الحرية مع الرب والتلذذ فى معرفته، وطلب ملكوته وبره، أهم كثيراً من الإهتمام بالطعام والشراب والملبس والمال.. فلا يجب أن نضيع أعظم اللحظات التى نشعر فيها بحضور الرب الحبيب، ونشكو له الغد، ونطلب طلبات مثل الأمم البعيدين عنه .. دعونا نطمئن فى كلمته لنا : "لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33 لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34 فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ" (مت32:6-34).