دكتور القس/ صفاء داود فهمى ..
شارك اكثر من اربعين شخصا في تدوين الكتاب المقدس. وقد جاء هؤلاء من خلفيات مختلفة، كما كانوا علي درجات ثقافية متفاوتة، فمنهم الملك، ومنهم الطبيب، ورجل السياسة، كما كان منهم راعي الغنم وصياد السمك، ومنهم من كان علي درجة عالية من الثقافة في عصره، كما كان منهم لم ينل قسطا وافرا من التعليم.
والذي يتقن اللغات الاصلية التي كتب بها الكتاب المقدس يدرك الفارق الكبير في اسلوب التعبير بين هولاء الذين كتبوا الاسفار المختلفة ..
وواضح ان بعض كتب العهد القديم لم يكتبها شخص واحد، فسفر المزامير مثلا، وهو مجموعة كبيرة من الاشعار التي تتضمن الكثير من التسابيح والصلوات، والتعبير عن الخلجات والاختبارات الروحية للمؤمنين، شارك كثيرون في تدوينها، ثم جمعت لتستخدم في العبادة في خيمة الاجتماع، ثم في الهيكل. كما كان الكثير من الحكم والامثال التي نجدها في سفر الامثال تنسب الي الملك سليمان، وان كان غيره قد شارك فيها بالكتابه (مثلا أم 3 : 1 ومايليه. 31 : 1 ومايليه).
وقد استغرقت مراحل تدوين الكتاب المقدس، ما يزيد عن الف وخمسمائة عام تقريبا وهؤلاء الكتاب علي سبيل المثال :-
موسي : قائد سياسي وقاض "تعلم في مصر.
داود : ملك وشاعر وموسقي وراعي غنم ومحارب.
عاموس : راعي غنم ، وجاني جميز.
يشوع : "قائد عسكري".
نحميا : ساقي احد الملوك الوثنيين.
دانيال : رئيس وزراء.
لوقا : طبيب ومؤرخ.
بطرس : صياد.
متي : جابي ضرائب.
بولس : معلم ديني.
مرقس : سكرتير وتلميذ الرسول بطرس.
إلا اننا عندما نتحدث عن تدوين اسفار الكتاب المقدس، نخطيء كثيرا اذا تناولنا الموضوع للحديث عن الاشخاص الذين دونوا الاسفار المختلفة دون التركيز علي عمل روح الله القدوس الذي اوحي لهم بان يدونوا لنا الاسفار المقدسة. ويحدثنا الكتاب المقدس عن كونه :- موحي به من الله (2 تي 3 : 16) كما يذكر بانه : "لم تأت نبوة قط بمشيئة انسان بل تكلم اناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط 1 : 21 ) فالمسيحيون لا يؤمنون بان الكتاب المقدس كتاب نزل من السماء بكل كلماته وحروفه، ولكنهم يؤمنون بالوحي : فقد دون اناس الله القديسون كلمات الكتاب المقدس، كل باسلوبه المتميز ومفرداته الخاصه، الا انهم جميعا كانوا (مسوقين من الروح القدس) اي محمولين او مدفوعين بعمل الروح القدس فيهم، كما تدفع الرياح السفن. وهذه هي الصورة التي يقدمها لنا الرسول بطرس في هذه الآية - فالروح القدس هو الذي حمل هؤلاء علي ان يتكلموا بكلام الله ..
كما ان الرسول بولس عندما يقول ان الكتاب "موحي به من الله" يستخدم تعبيرا مفاده ان كلمات الكتب المقدسة هي عينها "انفاس الله" او "نسمات الله".
انها لمعجزات كبيرة ان يجتمع في الكتاب المقدس عمل روح الله مع تعبيرات البشر، ولهذا نجد تلك "المكتبة" الكبيرة تقدم لنا فكرا واحدا منسجما، ومضمونا واحدا في توافق مبارك، رغم العدد الكبير من الكتاب الذين شاركوا في تدوين الاسفار المقدسة.
لغات الكتاب المقدس الأصلية
عندما دونت اسفار الكتاب المقدس المختلفة استخدم روح الله اللغات السائدة بين الشعوب الذين وجه الرب اليهم رسالته واللغات الاصلية للكتاب المقدس التي كتب بها هي :
اللغة العبرية :
كانت اللغـة العبرية هي اللغـة السائدة بين العبرانيين وكانوا يسمونها "لغة كنعان" (اش18:19) واحيانا "اللسان اليهودي" (2مل26:18-28 ونح24:13) ولذلك نجد ان الوحي دون لنا العهد القديم كله تقريبا باللغه العبرية.
اللغة الارامية :
كانت اللغة الارامية هي اللغة السائدة في مناطق كثيرة فكانت اللغة الرسمية في المملكة الارامية "السورية" (2مل17:18-37). كما انها كانت اللغة الرسمية في الامبراطورية الفارسية وبعد العودة من السبي حزن نحميا لأن الشعب نسي اللغة العبرية، وأصبحت السيادة للغة الارامية (نح24:13) وعندما قرأ من الشريعـة للشعب باللغة العبرية كانت هناك حاجة لمن يترجم باللغة الارامية (نح2:8-8) وقد دونت بعض اجزاء العهد القديم باللغة الارامية وهي ( دا4:2 الي 28:7، عز8:4 الي 18:6 ، 12:7-26 ). وجدير بالذكر ان الاجزاء الارامية في سفر "عزرا" تشمل المراسلات الرسمية مع ملوك فارس. وظلت اللغة الشائعة للشرق الادني حتي عصر الاسكندر الاكبر ..
اللغة اليونانية :
ظلت اللغة الارامية اللغة الرسمية الي ان انتصر الاسكندر الاكبر علي مملكة الفرس سنة 331 ق. م. فأصبحت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية، وان كان عامة الشعب قد استمروا في استخدام اللغه الارامية. اما اللغة اليونانية فاصبحت اللغة السائدة التي يستخدمها رجل الشارع في روما والاسكندرية وانطاكية وأفسس، بينما كانت اللاتينية لغة الحكام الرومان وجيوشهم.
وعملت الغزوات التي قام بها الاسكندر الاكبر علي نشر اللغة والثقافة اليونانية. إذ حلت اليونانية الهلينية (الشائعة) في ذلك الوقت محل اللهجات الاقليمية علي نطاق واسـع، واضافت اللهجة الشائعة الكثير من التغيرات الاقليمية علي اليونانية الفصحي، ومن ثم اصبحت اكثر عالمية ومع ذلك فقد احتفظت اليونانية بصفاتها المميزة من قوة وجمال ووضوح وقدرة بلاغية ومنطقية...
الا ان اليونانية التي كتب بها العهد الجديد كله لم تكن اليونانية الكلاسيكية التي كتب بها ((هوميروس)) اشعاره بل كانت اليونانية الشعبية التي يستخدمها رجل الشارع، وان كانت قد امتزجت ببعض المفردات اللاتينية السائدة وببعض قواعد النحو الخاصة باللغه العبرية، كما اتسعت لبعض المفاهيم والمفردات التي انتقلت من العبرية لليونانية من خلال الترجمه السبعينية للعهد القديم ..
لقد رأينا كيف استخدم الله اللغات العبرية والارامية واليونانية لتصل رسالته للبشر، وبذلك يمكننا ان ندرك ان الكتاب المقدس تخطي كل حواجز اللغة. والمفردات في حد ذاتها لا تحتل المكان المركزي، ان مايهم هو ان تصل رسالة محبته للبشر بلغة يفهمونها بسهولة وبيسر ولذلك لم يكن غريبا ان يهتم المسيحيون، علي مر العصور والاجيال، بترجمة الكتاب المقدس الي لغات البشر المختلفة ..
* * * *