ها الأيام تمضى يا ابنى، وأراك وأنت تكبر وتنمو أمام عينى. إن قلبى ينبض بالفرح لرؤياك، فأنت فى فكرى ونفسى وكل كيانى.. يالسعادتى حين كنت أراك وأنت تحبو، وبعد ذلك وأنت تمشى وتجرى!
ابنى.. أتذكر وداعتك وهدوءك وخضوعك، كم كنت مثالاً لكل ابن خاضع لأبويه.. لقد رفعت رأسى، بل صرت لى تاجاً يجملنى أمام عيون الناس.. أتذكرك وأنت تساعد أباك، وتبادر دوماً بمد يد العون.. كم شكرت الآب لأجلك، ويالحظى لكونك ابنى.. لقد كان الناس يقولون لى: لم نر مثل ابنك، ولن نرى مثله على مر الزمن!
ما أروعك!.. لقد جذبت الجميع بحبك ورحمتك، لقد صنعت الخير، اذ كنت تجول تصنع خيراً، وتشفى جميع المتسلط عليهم ابليس (أع38:10) كم كنت أتمنى أن تبقى دائماً بجوارى وأمام عينى، ولكن الأمر ليس بيدى أيها الابن الغالى، بل هو ترتيب وإعداد إلهى!
لكنه كان أمراً قاسياً بالنسبة لى. لم أكن أعرف أنى سأرى هذا المنظر الأليم البشع.. لم أقدر أن أتمالك نفسى حين شاهدت تعذيبك أمام عينى!!
ابنى .. انهم كانوا يعذبوننى معك.. انهم كانوا يضربون بالسياط قلبى أنا، ويجلدون كيانى أنا، ويمزقون مشاعرى أنا! لا أنسى صوت آهاتك، ولا أنسى دموعك، ولا أنسى مشهد دمك الذى انساب ولطخ قلبى أنا!.. رفعت عينى إليك، فرأيت منظرك مشوهاً وملطخاً بالدماء، وأنت معلق على صليب العار، وبين لصين.. كنت أبكى عليك، حتى انفطر قلبى!!
ابنى الغالى.. ما أقسى هذه اللحظات علىّ وأنا أراك تموت أمام عينىّ.. ليتنى أقدر أن أمنع قساوة الجنود.. ليتنى أقدر أن أعطيك لتشرب، وأنت عطشان! ابنى.. انه أكبر عذاب تحملته لأجلى ولأجل العالم كله! "لقد َجُازُ فِي نَفْسِى سَيْفٌ!" لقد سمعت هذه العبارة من سمعان، إذ قال لى : "وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ" (لو35:2) وقتها كنت طفلاً رضيعاً.. ولم أكن أعرف معنى هذه الكلمات، حتى رأيتك وسط آلام الصليب المروعة.. لقد جاز فى نفسى السيف فمزقها تمزيقاً!
أعلم جيداً اننى مهما احتملت من ألم هذا السيف، فلن يكون مثل احتمالك لعذابات الصلب، والتى ختمت بطعنة الحربة، لتسيل منك دماء الغفران والتطهير..
ابنى.. لم أكن حزينة بمفردى، بل حتى الطبيعة شاركتك أحزانك، فالسماء اظلمت، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت ومرت ثلاثة أيام، وكأنها سنون! وأنا فى حزنى وألمى على موتك.. ولكن حزنى لم يدم.. لقد رقص قلبى من الفرحة حينما قمت ظافراً من الموت! لقد انتصرت على الموت، إذ أنت هو القيامة والحياة .. وها قد عادت لقلبى فرحته! لقد أدركت أن صلبك وموتك كان من أجلى لتمنحنى الخلاص الأبدى..
لقد أبدلت ثياب الحزن بثياب الفرح، وتحولت من البكاء إلى السعادة الدائمة.. أنت بعد قيامتك صعدت إلى السماء لتعد لى المكان الذى سأبقى فيه بجوارك، وأراك دائماً، وأسبح لك يامن ذُبحت واشتريتنى بدمك الثمين!
د/مارسيل اسحق